



نحو نهضة أخلاقية صوفيـة : المقصدالشـرعي والواقع
ذ· منير القادري بودشيش
أستاذ باحث في التواصل والتصوف بالسربون
إن العالم كله اليوم من أقصاه إلى أقصاه، يشعر الآن بحاجته الشديدة إلى دفعة روحية تنقذه من حيرته المادية، وتلهمه السداد في طريقه وتحرس خطاه· ولا ينكر أحد أننا أمام مرحلة حاسمة ليس في تاريخ الأمة الإسلامية فحسب وإنما في تاريخ البشرية جمعاء، مرحلة نُجَابِهُ فيها العديد من المشاكل التي تملأ دروب حياتنا، والضراوة المادية التي استهانت بكل القيم النبيلة· لقد أفلست القوى المادية وشعرت بقصورها عن تحقيق السعادة للناس وآن للقوة الروحية أن تأخذ طريقها، وتتبوأ مكانها العالي بين الأمم· والثورة الروحية التي يتوق إليها دعاة الإصلاح، والتي تستمد أصولها من كتاب الله وسنة رسوله تعني التصوف السليم في جميع جوانب حياتنا·إن كلمة التصوف تحمل في طياتها عالما فريدا من الرؤى النورانية الشفافة، كما تشير إلى نمط من الفكر والسلوك يتميز بخصوصية شديدة، وإذا كانت الحياة الصوفية تعكس أعمق وجهات النظر تجاه الوجود الدنيوي، فإنها تمثل أيضا أعلى مظاهر التقوى الدينية النابعة من صدق الرابطة بين الإنسان وخالقه·لقد كان التصوف ولايزال هو الضمير النابض الذي أشاع الصدق في وجدان الأمة، وكان الصوفية هم فقهاء القلوب الذين وضعوا قواعد المعاملة بين الإنسان وربه· وبين الإنسان والإنسان على أرض اليقين الراسخ والأخلاق الحقيقية واعتبروا أن الباطن هو ما يتشكل به الظاهر تشكلا صحيحا فكانوا دوما ينفذون من قشور الأشياء إلى لبابها قائلين: المدار على القلب·فالتصوف ضرورة لأنه منتهى السعي الصادق في كل الدروب، وما من خطى تحث لبلوغ الحقائق، إلا وكان التصوف غايتها ومنتهاها؛ ضرورة لحاجتنا إلى القضاء على ما في النفوس من طمع وجشع وحب الرياسة والمناصب والحقد والخيانة وحب التملك والأنا··؛ ضرورة لحاجتنا إلى أن يصبح العمل عبادة خالصة لوجه الله تعالى وطبيعة تلقائية يندفع إليها الإنسان بدافع من شعوره الديني الذي يحبب إليه العمل ويفرضه عليه أداء لحق الشكر وليس عبئا عليه، ويراقب الله عز وجل فيه؛ ضرورة لحاجتنا إلى إنسان بروح رجعت إلى أصلها وفطرتها، روح طاهرة صافية تقر بعبوديتها لله كما كانت في عالم ألست بربكم، روح تحررت من الشهوات والتعلقات والحظوظ في عالم اشتد فيه حب التملك؛ ضرورة لحاجتنا إلى إنسان علم أن كل نفس بما كسبت رهينة، يجعل مبدأه في الحياة: العبد وما ملك لسيده، فكان عمله لله ووقته وماله لله ونفسه لله، وكله لله وبالله· إنسان جعل الدنيا في يده وليست في قلبه، وتحقق بحقيقة الزهد من غير رهبانية وانقطاع عن الدنيا، الزهد الذي يجعل صاحبه ذا نظرة خاصة للحياة الدنيا، يعمل فيها ويكد ولا يجعل لها سلطانا على قلبه وتصرفه عن طاعة ربه· وليس من شرط الزهد في الإسلام أن يقترن بالفقر، فقد يتفق الغنى والزهد (عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما على سبيل المثال كانا زاهدين فيما يملكان) وقد بذلا أموالهما للمسلمين في سبيل الله· لذلك فالزهد الذي يدعو إليه التصوف هو ذلك الزهد الذي كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شعار أصحابه من بعده ومن سار على نهجهم من الأولياء والصالحين، وذلك الزهد هو زهد المالكين لا زهد العاطلين، زهد القادرين لا زهد المتطلعين، زهد الأقوياء لا زهد الضعفاء، زهد الأحرار لا زهد العبيد· وكيف يترك الصوفي الدنيا، وهي مزرعة الآخرة قبل أن يقدم فيها ما يحقق له الكمال الديني والسعادة الأخروية، ولله در القائل: اعبروها ولا تعمروها·والتصوف ضرورة من حيث كونه حقيقة العبادات، فقد حرص على النفاذ إلى أعماق الدين، فلم يكتف بهذه المظاهر من العبادة من صلاة وصيام وصدقة، ولكنه تحقق بآدابها وتعمق أسرارها، وبذلك أمكنه -بهدى من الله وبصيرة نافذة وإلهام صادق- أن يستقصي ما يمكن استقصاؤه من حقيقة هذا الدين الحنيف·ولو ظلت شعائر الدين لدى المتدين قاصرة على الرسوم والأشكال الظاهرة، فإن ينابيع الإيمان تنطمس في قلبه· إن التصوف يقف بنا على حقيقة مهمة تقول بتلازم القلب والجوارح، ففي فرض كالصلاة لا يتسنى للعبد تأديتها على وجه الحقيقة ما لم تعرج به صلاته عن كل ما سوى الله· فالصلاة في المفهوم الصوفي ليست حركات وسكنات وتلاوة آيات فحسب بل هي أيضا ارتقاء ومعراج ذوقي في أوقات يقف فيها العبد بين يدي مولاه· ويكفي أن التصوف لم يكتف بالفضائل من أسماء تدل عليها· ولكنه جعل من هذه الأسماء حقائق ناطقة وأرواحا منطلقة مشرقة، تفيض على أصحابها ومن حولهم نورها، وتمدهم بمكنون أسرارها، وتكسوهم من فيض جمالها وجلالها· إنهم جعلوا هذه الفضائل مقامات وأحوالا تحققوا بها· فمقام التوبة ومقام التوكل ومقام الصبر ومقام الشكر ومقام الرضا ومقام الزهد ومقام الورع وأحوال المحبة والخوف والرجاء والأنس واليقين إلى غير ذلك من المقامات والأحوال ولهم في كل ذلك أذواق ومشاهدات تشهد لهم بطول الباع وحسن الذوق وسعة الإدراك·و هكذا فالتصوف -كإسلام يذاق- لا شيء فيه يخرج من سياج الشريعة الإسلامية، وإنه لا يسع الصوفي مهما كانت مرتبته الروحية أن يسقط قاعدة شرعية وإلا صار زنديقا، وأنه لا يمكن أن تتعارض الحقائق الصوفية مع صريح الكتاب والسنة، يقول الإمام مالك رحمه الله: ''من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ومن جمع بينهما فقد تحقق''·وقال الإمام الشافعي: ''صحبت الصوفية فاستفدت منهم ثلاث كمالات:قولهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك قولهم: نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر قولهم: العدم عصمة·أما الإمام أحمد، فقبل مصاحبته للصوفية، كان يقول لولده عبد الله: يا ولدي، عليك بالحديث وإياك ومجالسة هؤلاء الذين سموا أنفسهم صوفية· فإنهم ربما كان أحدهم جاهلا بأحكام دينه؛ فلما صحب أبا حمزة البغدادي الصوفي، وعرف أحوال القوم، أصبح يقول لولده: يا ولدي عليك بمجالسة هؤلاء القوم، فإنهم زادوا علينا بكثرة العلم والمراقبة والخشية والزهد وعلو الهمة·ونقل العلامة محمد السفاريني الحنبلي عن إبراهيم بن عبد الله القلاني أن الإمام محمد قال عن الصوفية: لا أعلم أقواما أفضل منهم، قيل إنهم يستمعون ويتواجدون، قال: دعوهم يفرحون مع الله ساعة·أما الإمام أبو حنيفة، فقد روي في حاشية إبن عابدين أن داود الطائي أخذ العلم من أبي حنيفة وقد قال الدكتور عبد القادر عيسى في كتابه''حقائق عن التصوف'' : ''فهلا تأسى الفقهاء بهذا الإمام فساروا على فهمه وجمعوا بين الشريعة والحقيقة لينفع الله بعلمهم كما نفع بإمامهم الأعظم الإمام الكبير معدن التقوى والورع أبي حنيفة رحمه الله تعالى·والتصوف -كإسلام يذاق- يعني وحدة بنيانه، ذلك أن الإسلام كلُّ لا يتعدد، مهما اختلفت فيه الفرق وتنوعت المآخذ والمداخل، كذلك الأمر فيما يخص التصوف، فيجب أن ينظر إليه برؤية شاملة، فالصوفية كلهم يشربون من نبع واحد، وجميعهم مسافرون في رحلة تمتد من الخلق إلى الحق· وإذا كان العالم اليوم يدعو إلى إصلاح شامل يمس جميع الجوانب والأنظمة، فإن كل إصلاح لا ينطلق من الأساس لا يتم نتاجه، وأساس إصلاح المجتمع هو إصلاح الأفراد وتربيتهم على المحبة وتأليف القلوب، ووسيلة التصوف في ذلك هو إصلاح النفس أولا وتهذيبها وتحريرها من أهوائها وقطعها عن مألوفاتها حتى تتدرج في مراتب الكمال ومدارج الأخلاق المحمدية، إذ لا غنى لمجتمع عن الأخلاق، فهي التي تدفعه إلى الكمال المنشود والحياة الكريمة، والتصوف كله أخلاق، وهو أخلاق تطبع في القلوب لا أخلاق تصنع، قال النووي: ''ليس التصوف رسما ولا علما، ولكنه خلق، لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة، ولو كان علما لحصل بالتعليم، ولكنه تخلق بأخلاق الله···''·إن التصوف النقي لا يزال أرضا خصبة تثمر العديد من النواحي، ففي التربية هو أقرب للتكوين المتكامل والسليم لشخصية هذه الأمة، وفي الأخلاق هو أجدى من الجدل النظري والفكر الذي استوردناه وطبقناه فأخرج جيلا مغتربا، وفي الحياة الدينية هو الروح التي لو فارقت رسوم الشرع لتركتها ميتة، وفي الاقتصاد هو المعامل الذي تنقلب به موازين الحلول العقيمة للمشكلة الاقتصادية، وفي أمراض العصر خصوصا النفسية منه، هو أجدى من علم النفس العصري الذي هو طب علاجي يكون بعد حدوث الأمراض، في حين أن طب التصوف النفسي وقائي، والوقاية خير من العلاج وفي الفقه والتشريع هو الروح التي تسمح باجتهاد موفق وسديد تجعل منه فقه الواقع لحل جميع المشكلات الناتجة عن تعطيل باب الاجتهاد·وهكذا ارتفع التصوف فوق قامة الزمن، وعبر الصوفية الفضاء الخارجي لحدود الأرض حيث التقوا بالسماء في صفاء ومودة··· ورنوا بقصدهم في حب وعزم ورضا·· فأمنوا حيث خاف الناس· وعزوا حيث ذل الناس وسعدوا حيث شقي الناس، وبذلك يحصل الإنسان على توازنه السلوكي، يجعل منه فردا متحققا بالشرع ومنتجا في الواقع·فهل نحن في حاجة إلى هذا النوع من المواطن اليوم؟ علما أن الكثير يفهم التصوف فهما عقيما ويحسبه دخيلا، وهل للإنصاف والحكمة نصيب في إدراك المعنى الواضح القريب ؟وهل العودة إلى التصوف من باب التسليم والإيقان والتكريم لهذا العلم العظيم؟